الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا . ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له : الوتير ، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلاً من بني الحضرمي ، واسمه مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجراً ، فلما توسط أرض خزاعة ، عدوا عليه فقتلوه ، وأخذوا ماله . فعدت بنو بكر على رجل من بني خزاعة فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزان الديلي - وهم منخر بني كنانة وأشرافهم - سلمى وكلثوم وذؤيب - فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم . قال ابن إسحاق : وحدثني رجل من بني الديل ، قال : كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين ، ونودي دية دية ، لفضلهم فينا . قال ابن إسحاق : فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام ، وتشاغل الناس به . فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط لهم . كما حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، وغيرهم من علمائنا : أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده . قال ابن إسحاق : فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأراً بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل ، وهو يومئذ قائدهم ، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلاً ، وتحاوزوا واقتتلوا . ورفدت بني بكر قريش بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، فلما انتهوا إليه ، قالت بنو بكر : يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم ، إلهك إلهك ، فقال : كلمة عظيمة ، لا إله له اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأركم ، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؛ وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلاً ، يقال له : منبه . وكان منبه رجلاً مفؤداً خرج هو ورجل من قومه يقال له : تميم بن أسد ، وقال له منبه : يا تميم انج بنفسك ، فأما أنا فوالله إني لميت ، قتلوني أو تركوني ، لقد أنبت فؤادي ، وانطلق تميم فأفلت ، وأدركوا منبها فقتلوه ، فلما دخلت خزاعة مكة ، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء ، ودار مولى لهم يقال له : رافع فقال تميم بن أسد يعتذر من فراره من منبه : لما رأيت بني نفاثة أقبلوا * يغشون كل وتيرة وحجاب صخراً ورزناً لا عريب سواهم * يزجون كل مقلص خناب وذكرت ذحلاً عندنا متقادما * فيما مضى من سالف الأحقاب ونشيت ريح الموت من تلقائهم * ورهبت وقع مهند قضاب وعرفت أن من يثقفوه يتركوا * لحما لمجرية وشلو غراب قومت رجلا لا أخاف عثارها * وطرحت بالمتن العراء ثيابي ونجوت لا ينجو نجائي أحقب * علج أقب مشمر الأقراب تلحى ولو شهدت لكان نكيرها * بولاً يبل مشافر القبقاب القوم أعلم ما تركت منبها * عن طيب نفس فاسألي أصحابي قال ابن هشام : وتروى لحبيب بن عبدالله الأعلم الهذلي . وبيته : وذكرت ذحلا عندنا متقادما ، عن أبي عبيدة ، وقوله : خناب ، وعلج أقب مشمر الأقراب عنه أيضاً . شعر الأخزر فيما وقع بين خزاعة وبكر قال ابن إسحاق : وقال الأخزر بن لعط الديلي ، فيما كان بين كنانة وخزاعة في تلك الحرب : ألا هل أتى قصوى الأحابيش أننا * رددنا بني كعب بأفوق ناصل حبسناهم في دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير طائل بدار الذليل الأخذ الضيم بعدما * شفينا النفوس منهم بالمناصل حبسناهم حتى إذا طال يومهم * نفحنا لهم من كل شعب بوابل نذبحهم ذبح التيوس كأننا * أسود تبارى فيهم بالقواصل هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الأنصاب أول قاتل كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * بفا ثور حفان النعام الجوافل بديل بن عبد مناة يرد على الأخزر: فأجابه بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الأجب ، وكان يقال له : بديل بن أم أصرم ، فقال : تفاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيداً يندوهم غير نافل أمن حنيفة القوم الألى تزدريهم * تجيز الوتير خائفا غير آئل وفي كل يوم نحن نحبو حباءنا * لعقل ولا يحبى لنا في المعاقل ونحن صبحنا بالتلاعة داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل ونحن منعنا بين بيض وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القنابل ويوم الغميم قد تكفت ساعيا * عبيس فجعناه بجلد حلاحل أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون أن لم نقاتل كذبتم وبيت الله ما إن قتلتم * ولكن تركنا أمركم في بلابل قال ابن هشام : قوله : غير نافل ، وقوله : إلى خيف رضوى ، عن غير ابن إسحاق . قال ابن هشام : وقال حسان بن ثابت في ذلك : لحا الله قوما لم ندع من سراتهم * لهم أحدا يندوهم غير ناقب أخصيي حمار مات بالأمس نوفلاً * متى كنت مفلاحاً عدو الحقائب قال ابن إسحاق : فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة ، وكانوا في عقده وعهده ، خرج عمرو بن سالم الخزاعى ، ثم أحد بني كعب ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ذلك مما هاج فتح مكة ، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس ، فقال : يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا اعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك الموكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا وزعموا أن لست أدعوا أحدا * وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا سجدا يقول : قتلنا وقد أسلمنا . قال ابن هشام : ويروى أيضاً : فانصر هداك الله نصرا أيدا * قال ابن هشام : ويروى أيضاً : نحن ولدناك فكنت ولدا * قال ابن إسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نصرت يا عمرو بن سالم . ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء ، فقال : إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب . ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس : كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ، ويزيد في المدة . ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذين صنعوا . فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : تسيرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفي بطن هذا الوادي ؛ قال : أو ما جئت محمداً ؟ قال : لا ؛ فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان : لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً . ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ؛ فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ؛ فقال : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر . ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به . ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها ، وعندها حسن بن علي ، غلام يدب بين يديها ، فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحماً ، وإني قد جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائباً ، فاشفع لي إلى رسول الله ؛ فقال : ويحك يا أبا سفيان ! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه . فالتفت إلى فاطمة ، فقال : يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ قالت : والله ما بلغ بني ذلك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يا أبا الحسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي ، فانصحني ؛ قال : والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً ، ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ؛ قال : أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال : لا والله ، ما أظنه ، ولكني لا أجد لك غير ذلك . فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال : أيها الناس إني أجرت بين الناس . ثم ركب بعيره فانطلق ، فلما قدم على قريش ، قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة ، فلم أجد فيه خيراً ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو قال ابن هشام : أعدى العدو . قال ابن إسحاق : ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم ، وقد أشار علي بشيء صنعته ، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا ؟ قالوا : وبم أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت ؛ قالوا : فهل أجاز لك محمد ؟ قال : لا ، قالوا : ويلك ! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت . قال : لا والله ، ما وجدت غير ذلك . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها ، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : أي بنية : أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه ؟ قالت : نعم فتجهز ، قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : لا والله ما أدري . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتهيؤ ، وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها . فتجهز الناس . فقال حسان بن ثابت يحرض الناس ، ويذكر مصاب رجال خزاعة : عناني ولم أشهد ببطحاء مكة * رجال بني كعب تحز رقابها بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم * وقتلى كثير لم تجن ثيابها ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي * سهيل بن عمرو وخزها وعقابها وصفوان عود حن من شفراسته * فهذا أوان الحرب شد عصابها فلا تأمننا يا بن أم مجالد * إذا احتلبت صرفا وأعصل نابها ولا تجزعوا منا فإن سيوفنا * لها وقعة بالموت يفتح بابها قال ابن هشام : قول حسان : بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ، يعني : قريشاً ؛ وابن أم مجالد ، يعني : عكرمة بن أبي جهل . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، قالوا : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم . ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم لي غيره أنها سارة ، مولاة لبعض بني عبدالمطلب وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به . وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما ، فقال : أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة ، خليقة بني أبي أحمد ، فاستنزلاها ، فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئاً . فقال لها علي بن أبي طالب : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاكذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت الجد منه ، قالت : أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه . فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً ، فقال : يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول الله ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم . فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم . فأنزل الله تعالى في حاطب : قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود ، عن عبدالله بن عباس ، قال : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبا رهم ، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري ، وخرج لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ، بين عسفان وأمج أفطر . قال ابن إسحاق : ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين ، فسبعت سليم ، وبعضهم يقول ألفت سليم ، وألفت مزينة ، وفي كل القبائل عدد وإسلام ، وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار ، فلم يتخلف عنه منهم أحد . فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولايدرون ما هو فاعل . وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، يتحسسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به ، وقد كان العباس بن عبدالمطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق . قال ابن هشام : لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله ، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض ، فيما ذكر ابن شهاب الزهري . قال ابن إسحاق : وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بنيق العقاب ، فيما بين مكة والمدينة ، فالتمسا الدخول عليه ، فكلمته أم سلمة فيهما ، فقالت : يا رسول الله ، ابن عمك وابن عمتك وصهرك ؛ قال : لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمي فهتك عرضي ، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال . قال : فلما خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبي سفيان بني له . فقال : والله ليأذنن لي أو لأخذن بيدي بني هذا ، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً ؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ، ثم أذن لهما ، فدخلا عليه ، فأسلما . وأنشد أبو سفيان بن الحارث قوله في إسلامه ، واعتذر إليه مما كان مضى منه ، فقال : لعمرك إني يوم أحمل راية * لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله * فهذا أواني حين أهدي وأهتدي هداني هاد غير نفسي ونالني * مع الله من طردت كل مطرد أصد وأنأى جاهداً عن محمد * وأدعى وإن لم أنتسب من محمد هم ما هم من لم يقل بهواهم * وإن كان ذا رأي يلم ويفند أريد لأرضيهم ولست بلائط * مع القوم ما لم أهد في كل مقعد فقل لثقيف لا أريد قتالها * وقل لثقيف تلك : غيري أوعدي فما كنت في الجيش الذي نال عامراً * وما كان عن جرا لساني ولا يدي قبائل جاءت من بلاد بعيدة * نزائع جاءت من سهام وسردد قال ابن هشام : ويروى : ودلني على الحق من طردت كل مطرد . قال ابن إسحاق : فزعموا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ونالني مع الله من طردت كل مطرد ، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره ، وقال : أنت طردتني كل مطرد . فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، قال العباس بن عبدالمطلب : فقلت : واصباح قريش ، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر . قال : فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، فخرجت عليها . قال : حتى جئت الأراك ، فقلت : لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة ، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة . قال : فوالله إني لأسير عليها ، وألتمس ما خرجت له ، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً ، قال : يقول بديل : هذه والله خزاعة حمشتها الحرب . قال : يقول أبو سفيان : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها . قال : فعرفت صوته ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال : أبو الفضل ؟ قال : قلت : نعم ، قال : ما لك ؟ فداك أبي وأمي ، قال : قلت : ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس ، واصباح قريش والله ، قال : فما الحيلة ؟ فداك أبي وأمي ، قال : قلت : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنه لك ؛ قال : فركب خلفي ورجع صاحباه . قال : فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين ، قالوا : من هذا ؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها ، قالوا : عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته . حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : من هذا ؟ وقام إلي ؛ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة ، قال : أبا سفيان عدو الله ! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركضت البغلة ، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء . قال : فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه عمر ، فقال : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني فلأضرب عنقه . قال : قلت : يا رسول الله ، إني قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت برأسه ، فقلت : والله لا يناجيه الليلة دوني رجل ؛ فلما أكثر عمر في شأنه ، قال : قلت : مهلاً يا عمر ، فوالله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ؛ فقال : مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به ؛ قال : فذهبت به إلى رحلي ، فبات عندي ، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ! والله قد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد ، قال : ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأ مي ، ما أحملك وأكرمك وأوصلك ! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً . فقال له العباس : ويحك ! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك . قال : فشهد شهادة الحق ، فأسلم . قال العباس : قلت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئاً ، قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عباس ، أحبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ، حتى تمر به جنود الله فيراها . قال : فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي ، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه . قال : ومرت القبائل على راياتها ، كلما مرت قبيلة قال : يا عباس من هذه ؟ فأقول : سليم ، فيقول : ما لي ولسليم ، ثم تمر القبيلة فيقول : يا عباس ، من هؤلاء ؟ فأقول : مزينة ، فيقول : ما لي ولمزينة ، حتى نفذت القبائل ، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها ، فإذا أخبرته بهم ، قال : ما لي ولبني فلان ، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء . قال ابن هشام : وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها . قال الحارث بن حلزة اليشكري : ثم حجرا أعنى ابن أم قطام * وله فارسية خضراء يعنى : الكتيبة ، وهذا البيت في قصيدة له ، وقال حسان بن ثابت الأنصاري : لما رأى بدراً تسيل جلاهه * بكتيبة خضراء من بلخزرج وهذا البيت في أبيات له قد كتبناها في أشعار يوم بدر . قال ابن إسحاق : فيها المهاجرون والأنصار ، رضي الله عنهم ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، فقال : سبحان الله : يا عباس من هؤلاء ؟ قال : قلت : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ؛ والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ، قال : قلت : يا أبا سفيان ، إنها النبوة ، قال : فنعم إذن . قال : قلت : النجاء إلى قومك ، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقامت إليه هند بنت عتبة ، فأخذت بشاربه ، فقالت : اقتلوا الحميت الدسم الأحمس ، قبح من طليعة قوم ! . قال : ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ؛ قالوا : قاتلك الله ! وما تغنى عنا دارك ؛ قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن أبي بكر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجراً بشقة برد حبرة حمراء ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل .
|